.عن موسيقى إدريس الملومي 

 

       من خشب العود، من جلد الايقاع، ومن رعشة الاوثار،  تمازج بين عزف و نقر، تنساب عبره رعشات العود و الإيقاع.  "الموسيقي" أراد لهذا اللقــاء أن يكون أرضية للاختلاط و التمــازج و الحميمية  صوب الانفتاح و الحرية، وحين نعلم أن الإنسان  كالثقافة، لا يمكن ان يكون إلا متعدد الجوهر، نجد "الموسيقي" قد جمع عدة أعواد(الخشب)، عدة جلود (ايقاعات) ،عدة اصوات، عدة الوان بالمركز و المحور الأساس: آلة "العود"و بجانبه آلات إيقاعية متنوعة و متـــعددة الأصول.                                         "الموسيقي" كائن قائم من خلال تراثه، من خلال تقاليده و من خلال ما راكمه من علم و معـرفة متوارثة، هو معجون بكــل هذا، مما يجعله كاللب وسط الشجرة، بداخـله الجوهـر الأول و الماهية الأصل، تلك التي لا نستطيع أن ننكــرها، تلك التي تمنح العطــر رائحته الأولى، تلك التي تاطر الزمن و تشكل الأنساب. 

                                          "الموسيقي" يشكل كينونته أيضـا من طبقـات متعاقبة، كحلقـات هـذه الشـجرة الملتفة على بعضها البعض على مر السـنين، لتمنحها العمــر المتوج بالروح. هـذه الطبقات، تتداخـل لحماية اللب أثنــاء دورانـها باتجاه الخـارج، لتُحمى بدورهـا باللــحاء / الواجهة المرئية، الهشة، الجانب الذي يمتص، و اللذي يحتك مع الاخر ـ و العكس صحيح ـ اللحاء يستقبل   ويتلقى نعومة النسيم، وغضب الطقس، يرى الأيام تنصهر أمام الفصول، يحمل علامات الزمن التي تتحول داخليا حين تلامس نبضات القلب. 

إدريس الملومي يعلم أن كينونته هي من هذا التراث، يعشق الموروث في بنيته، في قوته،  و كرامته، لكـن هو في حاجـة ماسـة ليمنح عـوده فرصة إشباع نهمـه، هو بحاجة للذهاب بعيــدا، لمعرفة مدى قدرتـه على التفـاعل خـارج الموروث، هذه الرغبة في معرفـة كيف سيتفاعل عوده حين يكون فى حوار مع آلة "الزارب الايراني"، أو مع ايقاعات مدغشقر.  هل سيجد الحرية للانطـلاق و التعـبير مـع المراعات ـ بالشراهة نفسها ـ كل مـا تـوارثه،  لكن مع مغادرة حرة نحو إمكانيات التبادل والمغامرة، مغامرات غنية و متعددة ومفتوحة على الدروب و المسـارات التـي سلكها إدريـس المـلومي مع جـوردي سافـال، مع بـلاكي سيسوكو ، رادزيري،مع باولو فريدزو، مع ارمون عمار، مع ديباشيش بهتشاريا ، مــــع مونسيرات فيكيراس ... فكل المعرفة التي راكمـها في عوده منحته فرصة التورط بهــذه المغامرات/ اللقاءات.  اليوم، هو يرغب أن يعود لكل التوابل المستقاة من هذه التجارب العظيمة، ليتأمل كيف لعوده أن يقرأها في إطار الثلاثي، برفقة الايقاعات، و بمراعات لفكرة "الفضاء" . 

ثم تسجيل الشريط بأكادير، مكان ادريس، مكان طفولته، و حياته اليومية ، مكان ألوانه     و تأتيراثه، حيث يشعر بمفترق أساسي بين ثقافات عربية ـ امازيغية ـ غربية ـ جـــنوب صـحراوية ... بهــذا الموقع و هذا الجــزء من المـغرب، صاغ إدريـس المـلومي حيـاته    كموسيقي، رسم مخططاته الإيقـاعية، استوعب لغات مختلفة، شعر بأكــوان و عـوالم لا تطالب إلا بالإصغاء، تلقى، أخذ، غرف أولا ثم شعر أنه مستعد للعطاء ثانيا. أكادير جمعت فضاءات مختلفة، لأنه عاشها جسديا، تاريخيا  بشدة و عمق، كل الأشيـاء تموضعت و مـرت عنـده عبـر المـوسيقى، من الإطـار إلى التداعيـات، من الجـدور إلى الجذع، من اللب إلى اللـحاء، من الألـوان إلى روائـح الحياة، من اللقاءات إلى المواسـم.    و لترجمة كل هــذا إلى مـوسيقى، تلـزم الجرأة، الجــرأة على الابتعـاد عن يقيـن كـل ما     تلقيناه، الجرأة على أن يخطو إلى الوراء، أن يخرج من ذاته، ليذهب للاحتكـاك بدلالات أخرى، ثم ليعود بعد ذلك بكل اعتزاز لموروثه الخاص، ليسمح له بالتحليق فوق الإنحياز   و التعصب، و بعيدا عن الممنوعات ليعطي التقاليد غذاءها حتى لا تجف داخل قوالبها المفروضة . 

منذ مدة، و إدريس الملومي يتقن هذا السفر بامتياز، وهو يدعونا مرة أخرى الى أن نسافر معه داخل مشروع نوعي،  أخذ له الوقت اللازم ليزرعه بين أنشطة عدة داخل مســــاره الناجح. يعود إلى موسيقاه، موسيقى منفعلة مع الزمن، زمن تسجيل هـــذا الشريط،  زمن سيــقرر من خلاله أية لـغة و أية لهـجة سيتحدثها عــوده، فبكل الرزانـة التي تعلمها مــن   صديقه "جوردي سافال" و بكل الإلتزام الذي يميز رجل المسؤوليات كموسيقي أولا ، و كمدير المعهد الموسيقي لاكادير ثانيا، هو الرجـل/ الإنسان الـذي يريد لجميع المـوسيقات    ـ وضمنها التقليدية ـ أن تتطور بهدوء بعيدا عن الخطابات الأصولية المنغلقة، التي تفضل تكبيل حرية التعابير.هذا النهج ليس سهلا ابدا لأنه يفرض ضرورة المعرفة بقوة التأثيرات الخارجية في تفاعلها مع المعارف التقليدية. 

مرة أخرى يثبت لنا إدريس الملومي أنه من الممكن جدا توسيع مجال التعبير للآلـــــــــة الموسيقية، دون أن نسقط في التمظهرات الغير الضرورية، هكذا فهمه رفاقه الموسيقيون  حسين باكير، سعيد و كريمة الملومي وهم يمنحوننا جميعا عملا انسانيا و  موسيقيا عميقا.

إيتيان بورس 

 ترجمة  ـ بتصرف ـ ربيعة حيموش